أفكار وآراء

عودة الرأسمالية القديمة

20 يونيو 2018
20 يونيو 2018

روبرت سامويلسون - واشنطن بوست -

ترجمة: قاسم مكي -

نحن نداهن أنفسنا حين نعتقد بأننا نعيش في وقت يشهد انقلابا اقتصاديا استثنائيا. فالحقيقة هي أن الحاضر يشبه الماضي. ما تعلمناه ونسيناه هو أن الاقتصاد الدينامي تدميري بطبيعته. لكن التشنجات الاقتصادية الدورية كثيرا ما توجد منافع في الأجل الطويل. ظل هذا القول صحيحا طوال معظم تاريخنا. ومن المؤكد أن زمننا الحاضر يزخر بالتحولات الاقتصادية مثل مقدم الإنترنت وعجوزات الموازنة الأمريكية الضخمة ومستويات الدين العام والخاص المرتفعة في البلدان الغنية والنامية على السواء، وصعود الصين وتزايد عدم المساواة في الدخل والثروة، والهجرة وشيخوخة السكان والعولمة (ليس فقط في تجارة السلع والخدمات ولكن أيضا في التدفقات النقدية الهائلة عبر الحدود الوطنية) وغيرها.

ويبدو أن طبيعة الاقتصاد نفسها تتحول إلى شيء لا نعرفه. وإحساسنا بالأمان يهتز. كل ذلك صحيح. لكنه ظل دائما صحيحا. فنفس هذا المزيج من الانبهار والقلق الذي نشعر به الآن ينطبق على معظم إن لم يكن كل الحقب الاقتصادية السابقة. وفي الواقع عند مقارنته مع بعض الاقتصادات في الماضي يبدو اقتصاد اليوم هادئا. قبل سنوات قليلة أهداني صديق نسخة من كتاب بعنوان «التحولات الاقتصادية الأخيرة». صدر الكتاب في عام 1890 وهو من تأليف ديفيد أ. ويلز، أحد كبار الاقتصاديين الأمريكيين في أواخر القرن التاسع عشر. عندما نتصفحه، من الصعب ألا ندهش بالتماثلات بين ذلك الزمان والوقت الحاضر. ذكر ويلز في مقدمة كتابه الذي يحوي 500 صفحة ما يلي «إن التحولات الاقتصادية التي حدثت في الربع الأخير من هذا القرن أو في أثناء مدة الجيل الحالي للبشر الأحياء بلا شك أكثر أهمية وتنوعا من تلك التي شهدتها أي فترة سابقة مناظرة لها في تاريخ العالم». هل يبدو مثل هذا القول مألوفا؟ في زمان ويلز كانت هنالك إنجازات مذهلة في النقل والاتصالات والصناعة. فالبخار حل محل الرياح كمصدر رئيسي للطاقة في مجال النقل المائي. وحلت السكة الحديد محل المركبات والناقلات التي تجرها الخيول. وفي عام 1869 افتتحت قناة السويس وصادف ذلك التاريخ أيضا افتتاح أول سكة حديد عابرة للقارة في الولايات المتحدة. لقد كان المسافر في عام 1800 يحتاج إلى 42 يوما لقطع المسافة من نيويورك إلى شيكاغو. لكن عشية الحرب الأهلية (1861-1865) تقلصت تلك الفترة إلى يومين، حسبما جاء في طبعة الألفية من (كتاب الإحصاءات التاريخية للولايات المتحدة). وقللت القطارات الأكثر سرعة وكذلك مدَ المزيد من خطوط سكة الحديد من تكلفة النقل. ففي الفترة من 1859 إلى 1890 تضاعفت أطوال خطوط السكة الحديد 20 مرة تقريبا من 9021 ميلا إلى 166703 أميال.

لقد كان ذلك عصر التحول الحضري (الاتجاه إلى السكن في المدن) والصناعة في الولايات المتحدة. ففي عام 1860 كان كل أربعة من بين خمسة أمريكيين يعيشون في المناطق الريفية. وبحلول عام 1900 تضاعف عدد السكان ثلاث مرات تقريبا إلى 76 مليونا وكان 40% منهم يقيمون في المناطق الحضرية. كما حدث انفجار في التصنيع. ففي عام 1871 أنتجت الولايات المتحدة 6.6 مليون برميل من البيرة وبحلول عام 1900 زاد الإنتاج بحوالي ستة أضعاف.

وبالمقارنة، تبدو العديد من الإنجازات الاقتصادية اليوم معتدلة. فمن المؤكد أن ظهور المدن الكبرى كان أهم للحياة اليومية من ظهور الفيسبوك أو انستجرام. ورغم كل الأشياء المذهلة والمحبطة والمثيرة للسخط التي يمكن أن تفعلها التقنية الرقمية إلا أنها أقل تأثيرا من النكبات الاقتصادية العنيفة التي شهدها النصف الأخير من القرن التاسع عشر. بالطبع كان هنالك رد فعل عنيف وقتها، تماما كما هي الحال اليوم. لقد نتج عن تلك التحولات، حسبما أورد ويلز في كتابه المذكور، « تدمير مطلق لأجزاء كبيرة من رأس المال من خلال الاختراعات والاكتشافات الجديدة وإتلاف مقادير أكبر منه عبر التقليصات الواسعة النطاق لأسعار الفائدة والأرباح وسخط الطبقة العاملة وتزايد العداء بين البلدان». هل يبدو هذا القول مألوفا؟ أحد الجوانب السلبية لهذا التقدم الاقتصادي يتمثل في عدم الاستقرار المزمن. فقد حدثت حالات هلع مالي في 1873 و1882 و1893 و1907 من بين أعوام أخرى. وكثيرا ما تحولت النزاعات العمالية إلى احتجاجات عنيفة حين تخفض الشركات الأجور. وأدت الدينامية الاقتصادية أحيانا إلى ظهور المضاربات في سوق الأسهم والاحتيال. لقد اعتقدنا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية أننا نحدِث ونحسِن هذه الرأسمالية الفجة. فالسياسة النقدية والمالية (استخدام الحكومة للائتمان والموازنة الفيدرالية) ستجعل الدورات الاقتصادية أكثر سلاسة. وستخفف شبكة الأمان الاجتماعي (التأمين ضد البطالة وطوابع الطعام وما شابه ذلك) من المعاناة الإنسانية التي تتسبب فيها أوضاع التدهور الاقتصادي التي لا يمكن تجنبها. لقد كان هنالك تغير تاريخي. فالرأسمالية القاسية القديمة تفسح المجال لرأسمالية جديدة أكثر رقة. هل هذا صحيح حقا؟ نحن كلما ابتعدنا عن الحرب العالمية الثانية بدت الرأسمالية الجديدة شبيهة بالقديمة. فالإنجازات في الإنتاجية والمستويات المعيشية تأتي على شكل دفقات أو انبجاسات غير متوقعة ودورات الأعمال السيئة تستمر لفترة طويلة واللامساواة الاقتصادية تتزايد. من المبالغة القول إن الرأسمالية الجديدة ارتدت بتمامها إلى الرأسمالية القديمة. فشبكة الأمان الاجتماعي والسياسات النقدية والمالية الحديثة لا تزال باقية. وهي تحدث فرقا (بين الرأسماليتين.) وقليلون منا من يمكنهم التخلي عنها. لكن رغما عن ذلك يقترب الماضي في بطء من المستقبل.